Thursday 19 May 2011

أسامة، وحكومات الظل أخرى

Ecrit par عدنان المنصر, publie par http://www.machhad.com/?p=2554


وصلت قضية أسامة العاشوري إلى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بعد أن طافت عبر الفضائيات والصحافة وعيادات الأطباء، وكان ينتظر أن تجد لدى أعضاء الهيئة استقبالا يليق بطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد ولكن خاصة بطبيعة الاعتداء الذي قد يكون تعرض إليه الرجل. والحقيقة أن تعاطف الهيئة مع أسامة كان أمرا واضحا في كل النقاشات الجانبية التي تمت في أروقة المجلس بل أيضا لدى مكتب رئاسة الهيئة التي لم تستطع أن تبقى على ما يفترض أنه حياد إزاء قضية من هذا النوع. من يستطيع اتهام الأستاذ عياض بن عاشور بأنه يريد إشعال فتنة في البلاد؟ هذا مما لا يخطر على قلب بشر. لكن الرجل، وقد هاله حجم الاعتداء المحتمل ورمزيته لم يجد من بد لتحويل مسار الجلسة والخروج عن جدول أعمالها لإفساح المجال لمحامية الضحية، وهي من وجوه النضال الحقوقي في فترة حكم الرئيس الهارب، لطرح الموضوع على الأعضاء. كان خطؤها أنها انطلقت من وقائع للقيام بتحليل سياسي والبناء على ذلك التحليل وليس فقط على وقائع تبقى رغم كل شيء محتملة. كانت تلك مبادرة جيدة استحسنها كل من كان حاضرا ممن يؤمنون بأن ما وقع في البلاد هو ثورة كرامة بالفعل، أما الآخرون فقد شكل ذلك مفاجأة سيئة لهم.
كان الاعتداء المحتمل على أسامة عاشوري، الذي كذبته الداخلية دون تحقيق مثلما تعودت منذ نصف قرن، من تبعات أحداث يوم 7 ماي، ذلك اليوم الأسود في تاريخ المؤسسة الأمنية، ولكن عندما تكون كل أيام الجهاز سوداء فإن درجة السواد تصبح ثانوية جدا. هاجت الهيئة بمناسبة تلك الأحداث وماجت، ودفعت عديد العناصر داخلها من أجل اتخاذ موقف قوي من الحكومة، ولكن بعضهم عرقل ذلك بكل ما أوتي من أصوات عالية، محطما ذلك الإجماع المبدئي حول مسائل هي من تحصيل الحاصل في أي بلاد لم تعش ثورة أصلا، فكيف بها إن كانت تعيشها؟ وكيف بها إن كانت ثورة كرامة؟
تلك إحدى مشكلات هذه الهيئة: ليس كل من فيها مؤمن بأن ثورة وقعت في البلاد، وليس كل من فيها متفق على أهداف هذه الثورة إن صادف وآومنوا بها، وليس كل من آمن بها متفق على طريقة تحقيقها. بالإضافة إلى ذلك، وكلما تحدث أحد باسم الشعب أو باسم الثورة وأهدافها، فإن أولئك الذين لم يؤمنوا بها يوما هم أول من ينكرون عليه حقه في ذلك، وهم أول من يشكك في شرعية الهيئة، ذلك التشكيك الذي ينقلب في أحيان عديدة إلى احتكار لها: ليس لك الحق في الحديث باسم الشعب فالشعب لم ينتخبك، وليس لك الحق في الحديث باسم الثورة لأن الأمر لا يتعلق بمجلس قيادة ثورة. وفي المقابل فإنني هنا، باسم نفس ذلك الشعب وباسم تلك الشرعية، أملك من الحقوق ما تملكه وأكثر، فأنا حزب قديم، ناضلت وكافحت ومشيت على الجمر في سنواته، غير أنني أرى أن ما حدث في البلاد ليس بثورة، وأنه لا دخل للكرامة في الأمر، وأن البلاد (أي الحكومة) لا تنقصها مشاكل، وأن الأهم من كل شيء هو الوصول إلى الانتخابات (الرئاسية وليس انتخابات المجلس التأسيسي، طبعا).
من مفارقات الزمن الرديء أن من قاوم نشأة هذه الهيئة وقاوم الاعتصام الذي أتى بها، بل قاوم فكرة المجلس التأسيسي من أصلها، وقاوم الرافضين للحكومة الانتقالية الأولى، هو الأرفع صوتا داخلها. كان ذلك أمرا مخططا له منذ البداية، وها أن فصول ذلك التخطيط تتكشف يوما بعد يوم: هل صرح أحد بشيء ضد الحكومة؟ يجد هؤلاء أنفسهم في أول قائمة المدعوين على القنوات المشبوهة لمهاجمته. هل اتفقت الهيئة على فصل معين في قانون معين، وبأغلبية الأصوات، لتحرير الانتخابات من سطوة النظام القديم الذي لا يريد أن يلفظ أنفاسه؟ سيصوتون ضد ذلك، وعندما يكونون ضمن الأقلية، ينطلقون إلى الحكومة المؤقتة ليؤكدوا أنهم صوتوا ضد ذلك الفصل، فيوحون لها أن بإمكانها أن تطمع في تغيير موقف الهيأة إن أصرت على موقفها، فيوقعون البلاد من حيث لا يدرون في أول خطوات تأخير الانتخابات، أي في شهر كامل من التأخير عن إصدار مرسوم القانون الانتخابي.
قضية أسامة عاشوري ليست هي الأصل، وسواء صح الاعتداء الذي تعرض إليه أم كان مجرد فصل من فصول الصراع بين الحكومة وطرف سياسي معين، فإن الأصل كان أن يقع الإجماع على إدانة قوية لكل الاعتداءات التي تقع منذ يوم 14 جانفي حيث يفترض أن النظام القديم انتهى. المشكل أن من دافع عن الحكومة الأولى من داخلها يدافع اليوم عنها، ودون أدنى رغبة في التثبت من الوقائع، من داخل الهيئة، بل إنه يفترض أنه لو كانت الحكومة ممثلة داخل الهيئة لما كان بإمكانها لعب هذا الدور ببراعة وحماس أكبر. المشكل هو يوم 7 ماي وليس ما بعده، وإزاء ما وقع ذلك اليوم، تم التصرف من جانب نفس الطرف بنفس الطريقة، رغم أن الأمر لم يكن محتاجا إلى لجنة تحقيق حيث كان يكفي إلقاء نظرة على ما يحدث قريبا جدا من المقر المركزي للحزب للتأكد من ذلك. كان أمر اليوم آنذاك هو التالي: لا نريد بيانا قويا ضد الحكومة، بل لا نريد بيانا أصلا إذا كان أي بيان سيؤدي إلى تحميل المسؤولية للحكومة فيما وقع.
كم مؤسف أن ينزل طرف سياسي محترم جدا إلى هذا الدرك الأسفل من الحسابات في سبيل هرولته نحو السلطة، مهتما بالقطاف أكثر من اهتمامه بطبيعة الثمرة والسلم المستعمل للوصول إليها. كم محبط أن نرى الحزب الديمقراطي التقدمي الذي كان لا يتردد عن إدانة عملية قذف بالحجارة لسيارة أمينته العامة في إحدى ربوع البلاد، محاولا تحريك كل الساحة ضد ذلك “الاعتداء الغاشم”، يصمت إزاء عملية قذف مستقبل البلاد وثورتها وحلم أجيالها. هذه الانتقائية في التفاعل مع قضايا يفترض أنها مبدئية أمر مخيف: مخيف لمستقبل هذا الحزب العريق والمناضل الذي لا نتصور المشهد من دونه، ومخيف لمستقبل البلاد حيث يبدو أن للسياسة قوانينها التي لا يفهما إلا المسرعون نحو الكراسي. ولكن، هل خرجوا من الكراسي أصلا حتى بعد سقوط حكومة الغنوشي؟ من هنا فصاعدا، يبدو أنه يجب البحث عن حكومات ظل في مكان آخر تماما.

No comments:

Post a Comment