Wednesday 18 May 2011

المسار الثوري التونسي: قراءة في المعطيات الاقتصادية

Ecrit par وليد حدوق, publie sur http://www.machhad.com/?p=2527

منذ بداية الثورة التونسية لازم الحديث عن ” الكلفة الاقتصادية ” وخطر ” ركود النمو ” تحليل فريق من الفاعلين السياسيين والحكوميين, ولم يخل ذلك من مآرب سياسية, إذ أن هذه ” الفزاعة ” رافقت نقدا  لاحتجاجات ذات طابع سياسي محض ( اعتصام القصبة 2, بداية اعتصام القصبة 3) لم تكن في جوهرها إضرابا عن العمل أو عزوفا عنه وإن رافقتها تحركات وإضرابات ذات طابع اقتصادي اجتماعي. على أن المريب هو أن مؤسسات الدّولة ( البنك المركزي, الوزارات المعنية بالملف الاقتصادي) التي كانت إلى حدود 14 جانفي تهلل ل”النموذج التنموي التونسي” و”الخيارات الاقتصادية الاجتماعية ” أضحت بعد هروب الرئيس التونسي السابق تلحّ على تأزم الوضع وتشرحه للمواطنين بطريقة مُبهمة لا ترقى إلى مستوى الخبر(1). ولسنا ننفي الانعكاسات السلبية للمسار الثوري في تونس على الاقتصاد في المرحلة الراهنة, غير أننا نحاول في هذا المقال مقاربة الكلفة الاقتصادية واقعيا, أي أننا نسلّم بوجود مسار ثوري ونقرأ على ضوءه المعطيات الاقتصادية وما تتطلبه هذه المرحلة من آليات تسييرية للاقتصاد.

عن الكلفة الاقتصادية للثورات:مقاربة مقارنة والدرس البرتغالي.

إن الحديث عن الوضع الاقتصادي في تونس في هذه المرحلة لا يصحّ فصله عن سياق التحول الدّيمقراطي والمسار السياسي عموما, وبهذا المعنى لا يُعتبر التراجع الاقتصادي المُرافق للمخاض السياسي الثوري خبرا أو مشكلا مستقلا بذاته بقدر ما يرتبط بنجاح الثورة في تحقيق أهدافها بالسرعة والكيفية المطلوبتين. وعلى سبيل المثال, عرف البرتغال بعد ثورة القرنفل سنة 1974 تراجعا اقتصاديا هاما ارتبط بظرف دولي ارتفعت فيه أسعار البترول ( بعد حرب أكتوبر 1973) وشهدت فيه أوربا عموما ركودا اقتصاديا وارتفاعا في نسب البطالة. ولقد تميز الاقتصاد البرتغالي في الفترة السابقة للثورة بين 1968 و1974 بنسب نمو هامة ( حوالي 6,5 في المئة سنويا) إلا أن مؤشراته الاقتصادية والمالية نزلت إلى أدنى مستوياتها بُعيد الثورة حيث بلغ عجز الموازنة 15 في المائة من الناتج الداخلي الخام وعرف الميزان المالي في حينها أسوأ وضع له في تاريخ البرتغال(2). وتجدر الإشارة إلى الثورة المضادة في البرتغال بقيادة ” الأغلبية الصامتة “(3) سنة 1975 كانت بالأساس ردّة فعل على حالة فوضى عمت وسائل الإنتاج واحتجاجات ذات طابع يساري راديكالي قادتها الشرائح المهَمّشة اقتصاديا واجتماعيا في حينها. ولم تنته هذه الاضطرابات وهذا الاستقطاب الاجتماعي ونتائجه الاقتصادية إلا بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي البرتغالي ديمقراطيا وكتابة دستور جديد أطلق مرحلة سياسية واقتصادية اجتماعية جديدة في البرتغال قطعت مع الاعتماد على المستعمرات في إفريقيا ومهّدت لانضمام هذا البلد للمجموعة الأوروبية وما شهده بعد ذلك من تنمية. إن ما يمكن استخلاصه تونسيا من الدرس البرتغالي وتجارب أخرى عديدة في التحول الدّيمقراطي ( اليونان مثلا ) هي النقاط التالية:
- لا تمثل التجربة التونسية على الأقل استثناءا في حال ارتبط التحول الدّيمقراطي بتراجع اقتصادي أو بمؤشرات مالية مقلقة, هذا إذا لم نسلم بحتمية ذلك انطلاقا من تجارب سابقة في جنوب أوروبا.
- إن كل خطاب يحصر هموم البلاد في المعطى الاقتصادي ويفصله عن ضرورة استكمال المسار الثوري لتحقيق الأهداف السياسية لا يعدو أن يكون كلام حق يُراد به باطل, إذ أن شرط الضرورة للتنمية هو الاستقرار السياسي أي القائم على تحقيق الرغبة الشعبية كاملة غير منقوصة.
وإذا كنا نقارب المعطى الاقتصادي في سياق المسار الثوري التونسي على ضوء تجارب سابقة, فإنه لا بد لنا من التنويه إلى أن نفس هذه التجارب قد شهدت في خضم انتقالها الديمقراطي مراجعة جذرية لتوجهاتها الاقتصادية السابقة انتهت في البرتغال مثلا إلى تضمين الاشتراكية في الدستور. ولسنا نلمح هنا إلى الإسقاط الحرفي لما سبق في هذه التجارب على ما هو واقع في تونس بيد أننا نلح على حيوية ” الانتقال الاقتصادي ” كلازمة من لوازم الانتقال الديمقراطي, وفيما يلي بيان ذلك.

” المطالب الفئوية “, استحقاق الشفافية وضروة التدقيق(4)

مع هروب رأس النظام السابق يوم 14 جانفي عصفت بالمؤسسات الاقتصادية للبلاد اضرابات واعتصامات عمالية متواترة لا شك في آثارها السلبية على مستويات الإنتاج ومؤشرات النمو الاقتصادي. وقد عمدت بعض الأطراف إلى اتهام هذه التحركات بالشعبوية وإرجاعها إلى نخب بعينها ( نقابية, أقصى اليسار, إسلامية في بعض الأحيان..) والحال أن تبسيط الظواهر الاجتماعية وحصرها في تأثير نخب ” أقلياتية ” هو في جوهره موقف شعبوي, إذ لا مناص لمن رام تحليلا موضوعيا حقيقيا من الإقرار بأن انهيار رأس الاستبداد كشف ما ساد في سنوات خلت من تشغيل هشّ واعتماد المحسوبية ناهيك عن استشراء للمناولة ( التي ألغيت مؤخرا في القطاع العام) ونتائج كل ذلك على الوضع الاجتماعي لشرائح واسعة من المجتمع التونسي. وإذا كنا نقرّ بأن بعض الإضرابات قد شابها الإفراط والغلوّ ( أطراف نقابية أقرّت بذلك أيضا) إلا أن ذلك لا يحجب عمق الخلل الاجتماعي الذي يتوجب جردا دقيقا لما سبق من استغلال وطرحا مستقبليا لما يجب أن يكون تضطلع به الأحزاب السياسية عوض الانخراط في معارك الاستقطاب الواهية. إن مجمل التحركات الاجتماعية – وخلافا للخطاب الشعبوي الذي يدينها إدانة مطلقة – تعبّر عن حاجة شعبية ملحة إلى خارطة طريق اجتماعية واضحة وهو ما يمكن أن نطلق عليه ” الانتقال الاقتصادي”.
وإذا كانت المعطيات الاقتصادية والمالية التونسية قبل 14 جانفي صندوقا أسودا من حيث غموض معايير الإحصاء وتهافت الأرقام الصادرة عن المؤسسات الرسمية, فإن فتح هذا الصندوق يمثل شرط الضرورة لما نطمح إليه من تنمية والخطوة الأولى في انتقال اقتصادي من شأنه أن يهدّأ التوتر الاجتماعي. ولا يعني فتح الصندوق الأسود مجرد تقص للحقائق أو محاسبة أقلية معروفة تُحَمّل وزر كل ما آلت إليه الأوضاع في البلاد إذ أن هذا الموقف شعبوي في جوهره لأنه يفترض ببساطة بأن الفساد محصور في هذا الفريق أو ذاك من أقارب الرئيس السابق وأعوانه. وتثير تصريحات المسؤولين الماليين الحاليين في تونس التي تُعرض عن الخوض تفصيليا في الأرقام -إلا ما تعلق منها بالخسائر الواقعة- الشكوك, فعلى سبيل المثال عادة ما ينأى مدير البنك المركزي السيد مصطفى كمال النابلي بنفسه عن ذكر المؤشرات تفصيليا وبوضوح(5).
إن ما تحتاجه تونس, وعلى خلاف ما يميز حاليا تصريحات المسؤولين الاقتصاديين, هو مزيد من الشفافية وتدقيق تفصيلي فيما كان سيّما في المجال المالي. إن حملة وطنية للتدقيق في الموارد المالية العمومية ووالعمليات البنكية والاستثمارية الكبرى التي عرفتها البلاد في السنوات الماضية من شأنها كشف خارطة الفساد الحقيقية دون استثناء سيّما عمليات الإقراض المشبوهة التي ذهبت لصالح رجال أعمال ومستثمرين لا يتم تداول أسمائهم عادة. وليس التدقيق إجراءا سياسيا تشرف عليه الحكومة ليتم التذرع بانتظار الانتخابات, وإنما هو إجراء إداري تقوم به لجان محايدة ومستقلة في مختلف البنوك وعلى رأسها البنك المركزي يفضي إلى ” تشريح ” المسالك المالية وتقييمها جديا وليس سرا أن مثل هذا يتطلب مدة زمنية غير قصيرة مما يجعل البدء فيه ملحا. وقد مثلت تجربة الاكوادور سنة 2008 في تدقيق مديونيتها الخارجية وما آلت إليه من نهب وسرقات داخل مؤسساتها البنكية والحكومية نموذجا لاستئصال الفساد وتخفيف عبئ هذا الأخير عن كاهل دافعي الضرائب بما أنعش الوضع الاجتماعي عموما, ونحسب أن تونس وفي خضم مسارها الثوري بحاجة إلى هكذا خطوة تمكّن من وضع البلاد على السكة الصحيحة سياسيا واقتصاديا.
إن تونس التي تشهد مسارا ثوريا لمّا يكتمل  بحاجة إلى تفهّم المجموعة الوطنية – الصامتين وغير الصامتين – لاستثنائية ظرف التحول الديمقراطي اقتصاديا وما يرتبط به من غليان شعبي لا يصحّ تبسيطه وحصره في توصيف ” المطالب الفئوية “, كما أن دور كل الفاعلين السياسيين والحكوميين هو تأمين انتقال اقتصادي مواز للانتقال السياسي يفترض على الأقل توجها حقيقيا وفاعلا لاستئصال الفساد ناهيك عن ضرورة طرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بالنموذج التنموي التونسي وما يرتبط به من توجهات عامة, سيّما ما يتعلق منها بالعلاقات الدّولية.

(1) انظر مثلا إلى هذا الخبر الذي نقلته وكالة تونس إفريقيا للأنباءhttp://www.tap.info.tn/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=41977&Itemid=67, وعلى سبيل المثال يلمّح هذا الخبر المنقول عن مسؤول في البنك المركزي إلى إمكانية عجز الدّولة عن تسديد أجور الموظفين انطلاقا من شهر جويلية في حال تواصلت الاعتصامات, ويذكر أن الحساب الجاري في الخزينة العامة بلغ ” إلى غاية 10 ماي” 549.2 مليون دينار, والحال أن هذا المبلغ يمثل الحساب الجاري لشهر ماي أي أنه يزيد على حاجيات الدّولة لدفع أجور هذا الشهر,149.2 مليون دينار وفقا للمصدر نفسه. وهذا ما نعتبره إبهاما في صياغة الخبر نترك للقارئ فهم مقاصده.
(2) انظر حول مجمل هذه المعطيات:                                                         Problems of Democratic Transition and ConsolidationSouthern Europe, South America, and Post-Communist Europe. Juan J. Linz and Alfred Stepan
(3) ” الأغلبية الصامتة ” هو المُصطلح الذي أطلق في البرتغال على المجموعات المساندة للأحزاب الموالية تقليديا للنظام القديم والتي قامت بمسيرات كبرى يوم 11 مارس 1975 منددة بالتوجهات اليسارية للحركة الثورية ومحذرة من خطر الحزب الشيوعي البرتغالي في حينها.
Audit (4)
[1]Pour parler de la situation actuelle, j’éviterais de parler chiffre (5): تصريح لمصطفى كمال النابلي http://www.webmanagercenter.com/management/article.php?id=105819 , نشير إلى أن السيد النابلي كان قد تحمل مسؤولية وزارية في عهد بن علي ( سنة 1990).


No comments:

Post a Comment