المشهد التونسي
http://www.machhad.com/?p=295تتصاعد من حين لآخر بعض الأصوات، صادرة في الغالب عن ممثلين لأحزاب تونسية، بعضها قديم والآخر مستحدث، للمطالبة بتأجيل الانتخابات المزمع تنظيمها في 25 جويلية القادم لتشكيل مجلس تأسيسي. وإذا كان انتخاب مجلس تأسيسي يمثل استجابة لتطلعات التونسيين وأحد الشعارات التي رفعت بقوة أثناء الثورة، وجاء اعتصاما القصبة لتأكيدها، فإنه لا يختزل كل شيء حتما، بل يمكن أن يمثل بداية لتأسيس حياة سياسية جديدة، تقوم على تقاسم السلطة بين المؤسسات بشكل أكثر توازنا من ذي قبل، مع تفعيل لهياكل المراقبة بما يمنع عودة الديكتاتورية مجددا إلى حياتنا.
ينبغي التذكير أن عددا من الأحزاب المطالبة بتأجيل الانتخابات قديمة الوجود في تونس، وإن كانت تعمل أحيانا في السرية، وإن حديثها عن عدم وجود استعدادات كافية لخوض الانتخابات تعبر عن مدى فشلها في تحقيق اختراقات واسعة في الرأي العام لأسباب قد يطول شرحها، ولكن يمكن تلخيصها في نفور الناس من العمل الحزبي، وواقع الحريات القاتم، وطبيعة أطروحاتها ووسائل عملها. أما أحزاب البارحة، فإن مطالبتها بالتأجيل ينطلق من فكرة أن التأجيل وحده هو ما سيمكنها من حسن الاستعداد للانتخابات، وهو أمر نشك فيه ولو وقع تأجيل الانتخابات عشر سنوات أخرى.
الغريب أن أنصار التأجيل لا يبررون دعوتهم تلك بالصعوبات التي يجدونها في ترسيخ حضورهم الحزبي لدى الرأي العام، وهي في نظرنا صعوبات طبيعية جدا، وإنما بمسوغات مثل “عدم نضج الرأي العام”، و”انعدام الثقافة السياسية لدى التونسيين”، و”ضعف الممارسة الديمقراطية” والتخوف، نتيجة لذلك، من “انتكاسة المسار الديمقراطي”. والحقيقة أن هذه أكبر شتيمة يمكن توجيهها إلى الرأي العام. فكل ما حصل بداية من 17 ديسمبر 2010 إلى حد اليوم، مرورا بيوم 14 جانفي وبحكومة الغنوشي الأولى والثانية، إنما يسفه هذا الإدعاء تسفيها مطلقا. ربما اعتقد هؤلاء أن الثقافة السياسية تعني التعرف على الأحزاب واستيعاب برامجها وتفهم أطروحاتها، وهذا غريب. فبحسب سرعة النسق الذي تتأسس عليه الأحزاب منذ بضعة أسابيع لن يكون بإمكان أي شعب من شعوب الدنيا أن يستوعب كل الأسماء وكل البرامج. من هنا وحتى يأتي وقت الانتخابات المعلن عنه في موفى شهر جويلية قد يتأسس خمسون حزبا آخر، مما يعطينا مائة حزب بالتمام والكمال، وهو ليس بالأمر السيئ في حد ذاته، ويدل على درجة معينة من “النضج السياسي”. بعد ذلك سيكون بإمكان عدد من هذه الأحزاب أن تندمج مع بعضها ظرفيا في شكل تحالفات انتخابية، أو تنظيميا وبشكل كامل. كما سيتمكن بعضها من البقاء في الصراع القادم، وهو صراع ستلعب فيه البرامج وكذلك الأموال دورا كبيرا، في حين ستندثر أخرى إلى غير رجعة لضعف الاستجابة لها لدى الرأي العام. عندها سيتذكر الكثير نظرية داروين مرة أخرى، ولن يكونوا مخطئين، فهذه النظرية تصلح أيضا لفهم الفضاء السياسي.
يبقى المشكل هو في رهن “نضج الرأي العام” بأجندات الأحزاب، ونتوقع أن كل من لن يستطيع تثبيت أقدامه في العشرين سنة القادمة سيظل وفيا لهذه الطريقة في التفكير. غير أن ذلك يخفي أمرا آخر، وهو عدم الثقة في التونسيين، واعتبار الحياة السياسية من شان الأحزاب وحدها، وهي نظرية لا يجب الوقوف كثيرا عندها لفهم المنطلقات غير الديمقراطية لأصحابها. هكذا إذا، ينجز الشعب ثورته، ويمكن النخب من التمتع بثمار تلك الثورة متمثلة في حرية التنظم والاجتماع والتعبير، فتكون النتيجة الأولى هو اتهام الشعب بالقصور وعدم النضج. كم سنكون تعساء لو قدر لحياتنا السياسية المستقبلية أن تكون رهينة أحزاب من هذا النوع.
في الوقت نفسه يرى كثير من الناس أن الوضع الانتقالي الذي نعيشه اليوم، مع كل ما يحتويه من ألغام سياسية وأمنية، لا يجب أن يطول أكثر من اللازم. ما هو المدى اللازم المعقول؟ القدرة التقنية، وليس السياسية، على تنظيم انتخابات. على المستوى التقني، وبغض النظر عن النظام الانتخابي الذي سيقع “اختياره”، فإن الموضوع لا يحتاج لأكثر من أسابيع أخرى، أي حوالي أربعة أشهر. بعد ذلك فقط يمكن تسمية ما يحصل انتقالا ديمقراطيا حقيقيا، حيث سيكون للشعب مجلس منتخب، وبما أنه لا حدود لسلطة المجلس التأسيسي المقبل، فإن بإمكانه تسيير البلاد عن طريق حكومة ورئيس مؤقتين، وكذلك الشروع في إنجاز دستور. استشرافا لما سيحصل، نعتقد أن الأمر لن يستغرق من المجلس المذكور سوى أشهر قليلة ثم يصدر الدستور ويقع الشروع في تحضير انتخابات تشريعية ورئاسية تمنح البلاد حكومة مستقرة. ليس هذا موضوعنا اليوم، ولكنه ذلك المتعلق بطبيعة عمل الدولة ابتداء من انتخاب المجلس التأسيسي، حيث سيكون للسلطة العمومية الشرعية الكافية للحكم، واتخاذ كل التدابير التي تراها ضرورية باسم الشعب الذي انتخبه انتخابا حرا وديمقراطيا وشفافا. يمكننا ذلك من تلافي كل أعراض عدم الاستقرار السياسي الذي نشهد فصولا منه اليوم، ولن يتجرأ طرف ما على التشكيك في شرعية السياسة المنتهجة من قبل المجلس المنتخب. تلك هي الضمانة الأولى لاستقرار الأوضاع على أكثر من مستوى في انتظار صدور الدستور المرتقب، وذلك ما يجب أن يحدد موقفنا من توقيت الانتخابات، أما حسابات الأحزاب، فإنها تقترب أو تبتعد من هذا التقدير في الغالب بحسب قدراتها على تحقيق انتصارات انتخابية، مما لا يجعل مطلب التأجيل في كثير من الأحيان مطلبا يستند إلى المصلحة العامة والقراءة الموضوعية للأولويات الوطنية.
من جهة أخرى يرى كثير من المتحزبين أنه يجب مرور وقت معين حتى تستطيع الأحزاب التعريف ببرامجها التي تتقدم على أساسها لخوض الانتخابات، وهذه في الحقيقة ذريعة أخرى لا تصمد أمام التأمل. يتوقف كل شيء على فهمنا لطبيعة عمل المجلس التأسيسي، وسلم أولويات النواب الذين سيصلون إلى مقاعده. يعتقد هؤلاء أن البرامج ستكون هي المحددة في هذه الانتخابات، وهم إنما يضعون أنفسهم في منطق الانتخابات التشريعية العادية وليس في منطق الانتخابات التأسيسية. لا يحتاج وضع دستور إلى أية برامج اقتصادية واجتماعية، كما لا يحتاج إلى حملات انتخابية للتعريف بهذه البرامج، وإن كانت الانتخابات التأسيسية فرصة ينبغي على الأحزاب استعمالها للتعريف بنفسها لدى الرأي العام. القضية قضية أولويات إذا، وبما أن معظم الأحزاب تكرر نفسها فيما تنطق به من خطاب، إذا جاز لنا أن نسمي كل ما تنطق به خطابا، فإن الجميع متفقون، متحزبين كانوا أو غير متحزبين، على تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي تتوازن فيه السلطات توازنا يضمن كل الحريات الأساسية ويمنع عودة الممارسات الاستبدادية للدولة، وهذا ليس بالأمر الصعب نظريا.
هناك نقطة أخرى يجب التوقف عندها مجددا، وهي قضية القانون الانتخابي المؤقت الذي سيقع خوض انتخابات المجلس التأسيسي بناء على فصوله، وبصفة أخص نمط الاقتراع المزمع التوجه إليه. تميل الأحزاب الكبيرة إلى نظام الاقتراع على القوائم، وكلما كبرت الأحزاب إلا ورغبت في أن تكون القوائم مغلقة ونظام الفرز من دورة واحدة، حتى تستطيع سحق الأحزاب الصغرى. بالنظر إلى الخريطة السياسية الموجودة اليوم، يمكن بسهولة استخلاص أنه لن تكون هناك أحزاب كبيرة، وهذا في الواقع لا يحبط الكثير من المتحزبين الذين يعولون على بناء تحالفات انتخابية. بمعنى أن التحالفات الانتخابية هي من سيحاول الدفع على نظام اقتراع على القوائم، وهذا ما يهدد برهن الساحة السياسية في المستقبل لتلك التحالفات. هذا أمر سيء جدا للديمقراطية، حيث سيتوجب علينا أن نعود جميعا للخضوع إلى حزب أو حزبين كبيرين، يستطيع كل منهما توجيه كل الأمور لمصلحته، ولن يستنكف في سبيل ذلك على استخدام إمكانيات الدولة لصالحه. بخلاصة، سنعود مجددا إلى نفس المربع الذي خلنا أننا تحررنا منه يوم 14 جانفي 2011.
يمثل نمط الاقتراع تحديا كبيرا لمستقبل الديمقراطية في بلادنا، ومثلما أن إبقاء موعد الانتخابات التأسيسية على حاله ضروري لتحقيق استقرار في الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، فإن التوجه نحو نظام اقتراع على الأفراد في دوائر انتخابية صغيرة من شأنه أن يعطينا في المحصلة مجلسا تأسيسيا معبرا عن الحالة الذهنية والسياسية للشعب التونسي، أي نفس الحالة التي أنتجت الثورة، كما أن من شأنه إنقاذ الأحزاب الصغيرة من كل احتكار قد تسعى الأحزاب الكبرى، أو التحالفات الحزبية، إلى ترسيخه على الحياة السياسية في المستقبل. من جانب آخر، فإن انتخابات في دوائر صغيرة، على مستوى المعتمدية مثلا، سيمنع أيا من رؤوس النظام القديم من الوصول إلى المجلس التأسيسي، حيث سيختار الناخبون مرشحين يعرفونهم جيدا. وهنا فإن لجان ورابطات حماية الثورة المنتشرة على مستوى المدن والقرى ستكون أحد الأطر الممكنة لتمكين الناخبين من التعرف على المرشحين، وسيكون الهدف دائما هو الحيلولة دون عودة النظام القديم.
يمثل نمط الاقتراع تحديا كبيرا لمستقبل الديمقراطية في بلادنا، ومثلما أن إبقاء موعد الانتخابات التأسيسية على حاله ضروري لتحقيق استقرار في الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، فإن التوجه نحو نظام اقتراع على الأفراد في دوائر انتخابية صغيرة من شأنه أن يعطينا في المحصلة مجلسا تأسيسيا معبرا عن الحالة الذهنية والسياسية للشعب التونسي، أي نفس الحالة التي أنتجت الثورة، كما أن من شأنه إنقاذ الأحزاب الصغيرة من كل احتكار قد تسعى الأحزاب الكبرى، أو التحالفات الحزبية، إلى ترسيخه على الحياة السياسية في المستقبل. من جانب آخر، فإن انتخابات في دوائر صغيرة، على مستوى المعتمدية مثلا، سيمنع أيا من رؤوس النظام القديم من الوصول إلى المجلس التأسيسي، حيث سيختار الناخبون مرشحين يعرفونهم جيدا. وهنا فإن لجان ورابطات حماية الثورة المنتشرة على مستوى المدن والقرى ستكون أحد الأطر الممكنة لتمكين الناخبين من التعرف على المرشحين، وسيكون الهدف دائما هو الحيلولة دون عودة النظام القديم.
تبدو هذه الاختيارات مترابطة ومتكاملة في الوقت نفسه، مما يضع مهاما بالغة الدقة على الرأي العام في هذه الفترة. حتما، كان التوجه نحو انتخاب مجلس تأسيسي أمرا جيدا، غير أن متاعبنا لم تنته بمجرد اتخاذ هذا القرار. في أثناء ذلك يضيع الرأي العام في التفاصيل اليومية، ويترك مصير مستقبل ثورته وحريته لجانب من النخبة السياسية قد لا تكون أولوياتها متطابقة حتما مع تطلعات غالبية التونسيين. تتم في الأثناء محاولات مفضوحة لإعادة جانب من ممثلي النظام القديم إلى الساحة، عبر تحالفات تقدم لنا على أساس أنها الحل الوحيد لمنع سقوط الساحة في يد أحزاب منافسة. عندما يقدم طرف ما مصلحته الحزبية على المصلحة العامة، تصبح طريقة تبرير ذلك أمرا ثانويا جدا. في الوقت نفسه، سيكون النظام الانتخابي الذي ستختاره “هيئة تحقيق أهداف الثورة ” بناء على السيناريوهات المقدمة من طرف الخبراء، مقياسا لدرجة ثقة هذه الهيئة والأحزاب الممثلة فيها في الشعب التونسي. نصيحة وحيدة من مواطن بسيط لهذه الأحزاب: حذار من الاستهزاء بإرادة الشعب التونسي في بناء دولته الحرة والديمقراطية، حذار من سوء تقدير إصراره على حريته وكرامته.
عدنان المنصر، 29 مارس 2011