Friday 27 May 2011

حول تأجيل الانتخابات (1)… الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وعمى الألوان

Ecrit par عدنان المنصر , publie parhttp://www.machhad.com/?p=2744

ركبت الهيئة المستقلة للانتخابات رأسها وقررت أنه لن تجري الانتخابات قبل يوم 16 أكتوبر. من ناحية تقنية بحتة لا يمكن توجيه لوم كبير لهذه الهيئة فهي تعتبر أن مهمتها ليس إجراء انتخابات بقدر ما هو إجراء انتخابات شفافة ونزيهة بالمقاييس المعتمدة في أرقى الديمقراطيات المعاصرة، وهذا من ناحية المبدأ أمر جيد. من بإمكانه اليوم تحمل التكلفة السياسية لانتخابات غير نزيهة؟ لا أحد، لأن ذلك سيدخلنا في متاهة جديدة حيث لن تستقر الأوضاع في المستقبل بعد أية انتخابات، وستبقى كل الحكومات القادمة تعاني من مشاكل الحكومة الحالية: عدم الشرعية أو الشك في الشرعية. لنتفق على شيء: هذه الهيئة مستقلة ( أو يفترض على الأقل أن تكون مستقلة)، ولكن المشكل أن البعض يقدسها ويجعلها فوق أدنى النقد. وهذا غريب لا نجد له شبيها في عقول الديمقراطيين خارج حدود بلادنا، فديموقراطيونا من طينة خاصة جدا، ينقدون كل المقدسات إلا ما يصنعونه بأيديهم، ولكن هذا أمر آخر. وجه النقد الوحيد الممكن لهذه الهيئة هو النقد الموضوعي، ليس بفعل ادعاء ذلك النقد للموضوعية ولكن بفعل اعتماده على عناصر مادية يمكن لمسها باليد، أو إن شئت بكلتا اليدين وببعض الأقدام

في جلسة أمس أصيبت معظم الهيئة بعمى فجئي وبصمم كلي: لا أحد يتذكر انه تم الحديث والتوافق في السابق عن تاريخ 24 جويلية لإجراء الانتخابات. وذهب البعض أصلا إلى أن تاريخ 24 جويلية كان يفترض أن يكون تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية وهذه مغالطة لا يمكن أن تنطلي حتى على الأطفال، اشترك فيها حتى رئيس الهيئة الموقر. بدا للبعض أنه حضر في اجتماعات هيئة أخرى طيلة الأسابيع الماضية أو أنه ربما كان تحت تأثير بعض مشتقات الهلوسة. المشكل أنه حتى وإن أخطأ الهيئة فإنه يتذكر جيدا أن نفس الوجوه كانت حاضرة معه في الهيئة الخطأ، بل والأدهى من ذلك أن الهيئة أصدرت في السابق بيانات ضمنتها التأكيد على موعد 24 جويلية للانتخابات، وهي بيانات صدرت باسم الهيئة العليا كلها، بما فيهم السيد كمال الجندوبي رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات، الذي لم يعترض مطلقا في السابق على هذا التاريخ ولم يبد لأحد، وهو  ”صاحب التجربة” في مجال الانتخابات (كان ذلك أحد شروط الترشح)، أية احترازات تذكر على الظروف التي كان يفترض أن تمنع عقد الانتخابات في وقتها.
في جلسة البارحة كان هناك استغفال كبير من طرف معظم أعضاء الهيئة للبقية التي يبدو أن ذنبها يتمثل في ذاكرتها الجيدة: عوضا عن مناقشة أصل الأشياء ذهب البعض إلى فكرة إصدار بيان مساندة للسيد كمال الجندوبي، ظاهريا بدعوى أنه يتعرض لحملة مغرضة (وهي حملة غبية ذهبت إلى التعريض بالشخص بطريقة غير مبررة) ومضمونا لقطع الطريق أمام أية إمكانية لوضع تاريخ آخر غير الذي ارتأته الهيئة المستقلة ولو كان توافقيا. معنى ذلك أنه لو قدر لذلك البيان أن يصدر، ولو وضع مع جملة البيانات التي صدرت في السابق لكان معناه أن الهيئة العليا تقول للرأي العام بكل الصراحة الممكنة: نعم، نحن نكذب، ولأننا نكذب فإن عليكم أن تواصلوا الثقة بنا، لأننا قدركم

في المقابل، بدا المتمسكون بتاريخ 24 جويلية وكأنهم لا يريدون الاعتراف بأن الأمر صعب، فعمى الألوان يبدو مرضا معديا. هل يفيد أحد أن ينكر وجود الصعوبات التقنية واللوجستية وأن يكون جوابه هو نفسه باستمرار: “ليست هناك صعوبات تمنع إجراء الانتخابات في وقتها”. بلى، هناك صعوبات، ولكن السؤال هو هل أن هذه الصعوبات تمنع إجراء الانتخابات وتجعلها مستحيلة؟ أم تجعل إجراءها في التاريخ الأول أمرا دونه هواجس حقيقية حول نزاهتها وشفافيتها؟ كان الأمر يتعلق برزنامة انتخابية قدمتها الهيئة العليا أخيرا، وهي رزنامة نعتقد أنه كان بالإمكان الضغط عليها لنربح شهرا من الزمان على الأقل ، مما يجعل تاريخ الانتخابات هو بداية أو منتصف شهر سبتمبر، قبيل العودة المدرسية والجامعية، ومطولا بعد شهر رمضان. لا أحد استمع لهذا الاقتراح الذي قدمته عدة شخصيات مستقلة، فالأغلبية كانت لا ترى في قرار التأجيل ليوم 16 أكتوبر إلا السواد القاتم أو البياض الناصع، وهذا مؤسف. المشكل أن البعض يعتبر، لفرط العمى، أن رزنامة الهيئة المستقلة (التي تحولت بقدرة قادر من مجرد “اقتراح” إلى كتاب منزل) علمية لا تقبل النقد ولا المراجعة، وهذا طبيعي، فكل ما يضعه القوم علمي لا يقبل المراجعة

من ناحية أخرى، فإن تحديد يوم الاقتراع كانت عملية سياسية فجة لا علاقة لها مطلقا بالصبغة التقنية التي يفترض أنها الاختصاص الوحيد للهيئة المستقلة. في كل بلاد الدنيا، عندما تكون المؤسسات قائمة وفاعلة، وعندما يكون الوضع السياسي مستقرا، تتفق الحكومات مع الأحزاب الموجودة خارج الحكم على تاريخ الانتخابات. أما في تونس فالوضع مختلف، وباستمرار. ما قامت به الهيئة المستقلة هو من الناحية السياسية عملية انقلابية، ليس على الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي لا تهم كثيرا وإن كانت هي التي انتخبتها، ولكن على فكرة التوافق التي يجب أن تقود المرحلة الراهنة. بل إن الأدهى هو أن معظم الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة قد شاركت في هذا الانقلاب، بل اشتركت فيه عن طريق التغطية عليه وإيجاد الأعذار له. وكما هو معلوم بالتجربة التاريخية، فإن الانقلاب قد يبدأ تجربة، ولكنه قد يصبح بعد ذلك عادة. وهذا منذر بكثير من العواقب في المستقبل، نفضل أن لا ننساق في تخيلها، فهذا أفضل للجميع. ما نرجوه فعلا هو أنه لم يقع الاتفاق على هذا التاريخ مع طرف سياسي معين قبل الإعلان عنه، وأن هذا التاريخ لم يأخذ بعين الاعتبار سوى المسائل التقنية، بل أن لا تكون الرزنامة  قد وضعت بطريقة توافق هوى البعض ممن نسي البارحة كل ما تم التوافق عليه في الأشهر السابقة. إنما هو رجاء، ولكن كثيرا من الرجاء مردود

عدنان المنصر، مواطن يريد أن يبقى حرا

No comments:

Post a Comment