Tuesday 17 May 2011

أبعد من الراجحي… انّها الثورة المضادّة

Ecrit par غسان بن خليفة et publie sur http://www.machhad.com/?p=2511

لكلّ ثورة ثورتها المضادّة. هذه من “قوانين التاريخ” التي لا يختلف عليها اثنان وان اختلفا ايديولوجيًا. وثورتنا في تونس لا تحيد عن هذه القاعدة. اذ تثبت التطوّرات الأخيرة أنّ قوى الثورة المضادة استعادت عافيتها وسطوتها.  فبعد أن تمّت الإطاحة بحكومة الغنّوشي وما مثّلته من محاولة للحفاظ على مصالح فئات وأطراف داخليّة وخارجيّة، تمّ الاستنجاد بالباجي قائد السبسي. فالسيطرة على الوضع كانت تتطلّب سياسيًا محنّكًا يمتلك ما افتقر اليه الغنّوشي من بلاغة وحضور اعلامي و… خبرة أمنيّة.
لم تكن صدفة اذًا أن يكون الهجوم على الراجحي بهذه الشراسة والاتّساع. فالهجمة لم تكتف بتكذيب الرجل ومحاولة الحطّ من قدره، بل وصلت إلى حدّ التشكيك في نزاهته ونواياه؛ بل وفي وطنيّته أيضا!  وبغض النظر عن مدى صحّتها، ظهرت “فجأة” مواقف مؤيّدة لبن علي نُسبَت الى الراجحي، كما ظهرت وثائق  لملكيّته عقارات وأراض، وتمّت استباحة حرمة حياته الخاصّة وتشريح عاداته.
ومن المفارقة أنّه في نفس الوقت الذي يُسعَى فيه إلى تحطيم معنويات الرجل وتشويه سمعته،  يبادر أصحاب القرار إلى تتبّعه قضائيًا بتهم تتعلّق بـ”المسّ من معنويات الجيش” وتشويه سمعة قيادته. هذا مع التغاضي غير البريء عن أنّ الرجل لم يتقصّد نشر جلّ ما قاله إعلاميا، بل كان ضحيّة لصحفيين لم يحترموا أخلاقيات المهنة (وان كان ما قاموا به يحتاج نقاشًا أكثر عمقًا نظرا لارتباطه بمفهوم “الصالح العام” الذي قد يبيح للصحفيين أحيانًا بعض “المحظورات”)..
لماذا الإصرار على استهداف الراجحي؟
كان من الطبيعي ألّآ يتعامل النّاس مع تصريحات الراجحي، كما تعاملوا مع تصريحات مشابهة صدرت عن سياسيين قبله. إذ أنّ الرجل يبدو في عيون الكثيرين – خاصّة الشباب المتحمّس والخائف على ثورته -  أكثر المغرّدين خارج سرب السلطة صدقيّة وجدارة بالثقة. فهم يعرفون أنّه شغَلَ منصبًا حسّاسًا قد يكون سمح له بمعرفة الكثير من الأسرار؛ فضلاً عن أنّه من اتّخذ قرار حلّ التجمّع قضائيًا وإقالة بعض المسؤولين في وزارة الداخلية.  اذًا كان طبيعيًا ان ينظر الكثيرون اليه كـ “بطل” و”حامٍ للثورة”.
وبالتالي كان من الضروري، بالنسبة للسلطة، التصدّي السريع لاحتمال بروز قيادة سياسيّة مستقلّة عن كلّ الأحزاب  قد يرفعها الشباب الثائر على أعناقهم. لكن ما قد يفسّر أكثر الاستهداف العنيف للرجل هو أنّه يمثّل في ذات الوقت الحلقة الأضعف والأخطر في معسكر “المناوئين”. فمن جهة، الراجحي بموقع ضُعف لأنّه تورّط لقلّة خبرته السياسيّة في تصريحات حسّاسة كانت تعبّر أغلبها عن تحليل وتخمين لا عن معطيات مؤكّدة.
وهو من جهة ثانية  في موقع قوّة ايضا – وان بدرجة أقلّ الآن بعد أن تراجع بشكل مرتبك عن تصريحاته التي أكّدها في البداية. وذلك لكونه تحديدا من خارج النخبة السياسيّة. فثقة الكثير من التونسيين  ضعيفة حيال قيادات الأحزاب (لا سيما تلك التي أخذت مواقف أثارت جدلا بعد 14 جانفي) ومسؤولي الدولة. والرجل يمثّل نمطًا مغايرًا لم يعهدوه من قبل، خاصّة على رأس وزارة  ارتبطت في أذهانهم بصورة السطوة والقمع. اذ فاجئ الجميع منذ قدومه بعفويّته اللافتة وبحرصه على الشفافيّة في تواصله مع الجمهور ومع وسائل الإعلام. وهو ما جعله يحوز ثقة الكثير من التونسيين الذين شعروا بأنّه صادق وقريب منهم. ويضاف إلى ذلك طبعا السمعة الطيّبة التي رافقت ظهوره وكان مصدرها أوساط المحامين والقضاة.
أبعد من الراجحي…
في نهاية المطاف، قد يُحاكم الراجحي وقد لا يُحاكم. المهمّ عند أصحاب القرار هو جعله “عبرة لمن يعتبر” دون ان يجعلوا منه “بطلاً” في عيون الفئات المصرّة على  حماية الثورة ومواصلة مسارها .
لكن المهمّ هو محاولة فهم هذا الحنق الكبير من قبل أقطاب السلطة الحاكمة على الرجل. سبب ذلك هو أنّه كاد يُسقِط، من دون قصد على الأرجح، حساباتهم في الماء. إذ أعادت تصريحاته  الموضوع السياسي من زاويته الأخطر الى رأس قائمة اهتمامات الجمهور ( وبالتالي الى قائمة اهتمامات الأحزاب أيضا، رغمًا عن البعض منها ربّما). وذلك بعد أن حاولت بعض الأحزاب، بمعيّة السلطة، جعل مواضيع أقلّ استعجالا– كمسألة “العلمانيّة”-   تطغى على النقاش العامّ.
وعلى وجه التحديد، أعادت تصريحات الراجحي  طرح السؤال السياسي الأهمّ: من يحكم تونس منذ 14 جانفي؟ (ومن وراءه سؤال: ما ذا جرى بالضبط يوم 14 جانفي وفي الأيّام التي سبقته؟) إذ  لا نعرف حتّى اليوم خلفيّات استقدام قائد السبسي وفرضه وزيرا أوّل دون أن تكون للرجل أيّ ميزات استثنائيّة تؤهلّه لقيادة بلد قامت به ثورة إلى برّ الأمان الديمقراطي. بل على العكس، فهو لم يتميّز بأيّ مواقف معارضة لديكتاتورية بن علي، ولا يمثّل شيئًا بالنسبة للشباب وللجهات التي تحمّلت العبء الأكبر من الثورة (على عكس رئيس الوزراء المصري الموّقت مثلا، الذي شارك في اعتصام ميدان التحرير). وأكثر من ذلك: كانت له تجربة وزارية مديدة مع النظام البورقيبي الديكتاتوري، قضّى جلّها في وزارة الداخليّة سيّئة الذكر.
تبيّن، قبل وبعد تصريحات الراجحي، انّ الأمر لا يتعلّق  بشخصه. بل هو يتعلّق على مايبدو بكلّ الشخصيات والقوى الرافضة لسياسة الأمر الواقع التي ينتهجها الفريق الحاكم منذ الإطاحة بحكومة الغنّوشي. سياسة يُحاوَل تمريرها تحت عنوان شعبوي مخادع هو “فرض هيبة الدولة.” إذ تمّ اتّهام حركة “الوطنيون الديمقراطيون” بالتسبّب في أحداث التخريب التي شهدتها مدينة سليانة. فيما قالت الحركة أنّ البوليس السياسي حاول إجبار أحد الموقوفين على الاعتراف بتلقّيه أموالاً من أحد مسؤوليها. وتبيّن ذلك أيضا في الردّ القمعي الوحشي على المظاهرات التي تلَت تصريحات الراجحي مطالبة بكشف الحقائق.
وتبيّن الأمر أكثر في اتّهامات الوزير الأوّل في لقائه التلفزي الأخير (الذي اختير له كالعادة وسائل إعلام “صديقة” وصحفيين لم يشتهروا بأسئلتهم المحرجة لضيوفهم) لبعض الأحزاب، التي لم يسمّها بالوقوف وراء التخريب و”انفلات الأمن.” كما اتّضح أيضا في استقبال قائد السبسي للأحزاب “المسؤولة” التي استنكرت بشدّة ما قاله الراجحي  ولم تر فيه ولو نقطة واحدة تستحقّ مساءلة الحكومة حولها؛ بل ولم تتوان بعض قياداتها عن اتّهامه ظلما بـ”الجهويّة”. هذا فيما تمّ استثناء الأحزاب التي تعبّر عن مواقف نقديّة للحكومة (وان بشكل هادئ مثلما يفعل حزب المؤتمر من أجل الجمهويّة).
كما بدا ذلك أيضا في ما عُقد من لقاءات بين قيادة الجيش وقيادة حركة النهضة، وبين الأخيرة والوزير الأوّل المؤقت (رغم أنّ الأخير كان مشاركًا في حملة التخويف من “النهضة”). لقاءات  يبدو أنّها هدفت الى طمأنة الحركة الى أنّها غير مُستَهدَفة – على عكس ما اشار اليه الراجحي. وذلك تمهيدا، على الأرجح، لـ”تحييدها” عن معركة تحطيم صورة الراجحي وكلّ من يقف في صفّ “المشوشّين” على السلطة، بشقيّها الظاهر والخفّي.
وكان آخر مؤشّر على ذلك ما صرّح به الشابّ أنيس العاشوري، أحد الذين برزوا في اعتصامات القصبة، حول إجباره على الإعتراف بتلقّيه تمويلا من “حزب حمّة الهمّامي وجمعية سهام بن سدرين”. إذ يبدو أكثر وضوحًا أنّ السلطة مصمّمة على استعمال كافّة الأساليب لتشويه وتحجيم من يصرّون على مساءلتها ويشكّكون في شفافيتها. وطبعًا ليس هناك ما هو أفضل من فزّاعات “الإنفلات الأمني” و”الإنهيار الإقتصادي” و”الخطر النهضوي” لإقناع النّاس بالتخلّي عن جموحهم الثوري والاكتفاء بما تحقّق لهم من حرّية تعبير نسبيّة.
المطلوب سياسيًا
أمام هذا المشهد، من الضروري برأيي أن تفيق بعض القوى السياسيّة من أوهامها – حتّى لا أقول أطماعها- الانتخابية. فلا معنى للإصرار على تنظيم انتخابات في موعد محدّد ما لم يتمّ توفير الشروط الفعليّة لنزاهتها. وهي لا تقتصر على مراقبة سير عمليّة التصويت وما يتبعها من فرز. بل تبدأ قبل ذلك بفترة طويلة، وتشمل مراقبة تمويل الأحزاب المتنافسة وضمان الظهور المتكافئ لمختلف القوى السياسيّة في وسائل الإعلام،  وضمان استقلاليّة القضاء الذي سينظر في الطعون المحتملة في النتائج والخ.
وهذه شروط مفقودة الى اليوم. خاصّة وانّ الحملة الانتخابية بدأت عند بعض الأحزاب منذ هروب بن علي وانّه لا رقابة بعد على تمويل عشرات الأحزاب والجمعيّات التي ظهرت مؤخّرًا. وهذا أمر في غاية الخطورة بالنسبة لبلد يعيش مرحلة انتقاليّة تسهّل اختراق ساحته من بعض القوى الدولية التي تسعى لتثبيت وتوسيع مصالحها ونفوذها فيه.
أمّا عن وسائل الإعلام فحدّث ولاحرَج. فالقنوات التلفزيّة، أهمّها وأكثرها تأثيرا على الرأي العام، ما زالت هي نفسها كما كانت قبل 14 جانفي، بنفس مالكيها الإنتهازيين وصحفييها – دون تشميل – الطيّعين. وهانحن نرى اليوم كيف بدأت تتخلّى هذه الفضائيات عن ثورجيّتها المستجدّة بُعيْد 14 جانفي لتعود كما كانت قبله خير معين للسلطة في التلاعب بالرأي العامّ وتوجيهه.
وعليه، فإنّه واهم من يعتقد أنّ الثورة تقترب من تحقيق أهدافها في الحرّية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فذلك لن يحصل طالما لم تتوحدّ القوى السياسيّة والاجتماعية المقتنعة فعلا بضرورة تحقيق هذه الأهداف.  وعلى المستوى السياسي لا أرى سبيلاً غير أن تتجمّع مختلف القوى “الجذريّة” في تحالف واسع. وأقصد بذلك القوى ذات المصلحة الفعليّة في القضاء التامّ على الديكتاتورية  وعلى علاقات التبعيّة الاقتصادية والسياسيّة والثقافية التي تحكم تونس في علاقاتها ببعض الدول (تحديدا فرنسا والولايات المتّحدة الأمريكيّة).  ومن أبرز هذه القوى يمكن ذكر حركة النهضة، حزب العمّال الشيوعي، حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحركة الشعب الوحدوية التقدّمية.
هذه القوى باستطاعتها – كما فعلت من قبل في إطار هيئة 18 أكتوبر -  ان تتوافق على صيغة “ميثاق للحرّيات” لحلّ ما تثيره حركة النهضة من  تخوّفات (بعضها مشروع بلا شكّ) على المكتسبات الاجتماعية لمجتمعنا. وهنا تعود المسؤوليّة الأكبر إلى حركة النهضة، التي عليها أن تطمئن أكثر التونسيين “الحداثيين” وان تتوقّف عن استغلال المساجد في الجدال السياسي.
فمن شأن هكذا تحالف، يمتدّ مجاله من “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة” إلى تأطير التحرّكات في الشارع، أن ينزع ورقة التهويل بالنهضة من يد السلطة وحلفائها؛ وبالتالي يعيد التركيز على القضايا الأساسيّة التي يحاول الآخرين طمرها. كما من شأنه أن يخلق التفافا واسعا يضمّ أحزابا وشخصيّات وحركات شبابيّة، فضلا عن شرائح واسعة من النقابيين. تحالف ستكون قاعدته الاجتماعية الأساسيّة بين الشباب وفي الجهات الداخليّة والأحياء الشعبيّة حيث الصنّاع الحقيقيّون للثورة.
هذا عن المدى القصير، أمّا عن المدى المتوسّط والبعيد فلا أرى لاستكمال تحقيق أهداف الثورة وتحصينها غير بناء قطب يساري قويّ، يكون في القلب منه تيّار قادر على إبداع خطاب وفكر جديدين.

No comments:

Post a Comment